لقد قدس الله – سبحانه وتعالى – قرآنه المجيد، ومن مظاهر ذلك: الرسم المصحفي، ويراد به الوضع الذي ارتضاه سيدنا عثمان – رضي الله عنه – في كتابه كلمات القرآن وحروفه، حيث إن الأصل في المكتوب أن يكون موافقا تمام الموافقة للمنطوق، من غير زيادة ولا نقص، ولا تبديل ولا تغيير...
لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل، فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق، وذلك لأغراض شريفة ظهرت، ومنها ما هو مكنون طي أسرار كتاب الله، والتي تفسر يوما بعد آخر .
1 - مزايا الرسم المصحفي
2 - هل الرسم المصحفي توقيفي؟
3 - موقف الزجاج من الرسم المصحفي
1 - مزايا الرسم المصحفي
للرسم العثماني مزايا وأغراض عديدة، منها:
1 - أن الرسم العثماني يدل على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة، ولتوضيح ذلك: رسمت: "تكاد السماوات" هكذا (تكاد السماوات يتفطرن) من غير ضبط ولا نقط، فهي برسمها هكذا تحتمل قراءة نافع والكسائي بالياء: "يكاد السماوات". كما تحتمل قراءة الباقين من السبعة بالتاء: "تكاد". وقراءة حفص والكسائي "تتفطرن" – بالتاء وفتح الطاء مشددة – وقراءة الباقين بالنون وكسر الطاء مخففة.
2- إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، وذلك نحو قطع كلمة "أم" في قوله تعالى: (أم من يكون عليهم وكيلا).
ووصلها في قوله تعالى: (أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)، إذ كتبت هكذا "أمن" بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميما واحدة مشددة،فقطع "أم" في الآية الأولى في الكتابة للدلالة على أنها "أم" المنقطعة التي هي بمعنى "بل"، ووصل "أم" الثانية للدلالة على أنها ليست كذلك؟
3- الدلالة على معنى خفي دقيق، كزيادة الياء في كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد) إذ كتبت هكذا "بأييد" – بياءين – وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، وأنها لاتشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة: "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى".
ومن هذا القبيل: حذف الواو من قوله: (ويدع الإنسان)، (ويمح الله الباطل) ، للدلالة على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل للتأثر به في الوجود.
4- إفادة بعض اللغات الفصيحة. مثل قوله سبحانه وتعالى: (يوم يات لا تكلم نفس إلا بإذنه)، كتب بحذف الياء هكذا "يات" للدلالة على لغة هذيل.
5- حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال، ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة.
وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان:
أ- التوثق من ألفاظ وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده، فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف، مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته، فقد تخطئ المطبعة في الطبع، وقد يختفي على القارئ بعض أحكام تجويده، كالقلقلة، والإظهار، والإخفاء، والإدغام، والروم، والإشمام، ونحوها، فضلا عن خفاء تطبيقها.
ولهذا قرر العلماء: أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها، بل لابد من التثبت في الأداء والقراءة، بالأخذ عن حافظ ثقة، وأن كنت في شك فقل لي بربك: هل يستطيع المصحف وحده بأي رسم يكون، أن يدل قارئا أيا كان على النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة، مثل: (كهيعهص، حم، عسق، طسم)،؟ ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه: (مالك لا تامننا على يوسف). من كلمة "لا تامننا"!
ب- اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك خاصية من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم.
2 - هل الرسم المصحفي توقيفي؟
لقد انقسم علماؤنا الأجلاء عند الإجابة عن هذا التساؤل إلى فرق ثلاثة:
الفريق الأول: يرى أن الرسم المصحفي توقيفي لا تجوز مخالفته، وذلك مذهب الجمهور، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم، وأقرهم الرسول على كتابتهم، ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل، بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الدستور لكتاب الوحي في رسم القرآن وكتابته، ومن ذلك قوله لمعاوية – وهو من كتبة الوحي - : "ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وعرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك".
ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في المصحف، ثم حذا حذوه عثمان في خلافته، فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة، وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان – رضي الله عنهم أجمعين – وانتهى الأمر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين، فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم، ولن ينقل أن أحدا منهم فكر أن يستبدل به رسما آخر من الرسوم التي حدثت في عهد ازدهار التأليف، ونشاط التدوين، وتقدم العلوم، بل بقي الرسم العثماني محترما متبعا في كتابة المصاحف لا يمس استقلاله، ولا يباح حماه!
كما احتاج هذا الفريق بأن للرسم العثماني أسرارا – كالتي سقناها أنفا – لذا يجب الالتزام بهذا الرسم، ويستشهدون على ذلك بقول إمامين جليلين من أئمة المذهب.
فقد سئل الإمام مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟
فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. والإمام أحمد بن حنبل يقول: "تحرم مخالفة خط عثمان في ياء أو ألف أو واو أو غيره".
وجاء "في حواشي المنهج في فقه الشافعية" ما نصه: "كلمة (الربا) تكتب بالواو والألف كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، لأن رسمه سنة متبعة".
يتبع